آخبار عاجل

رواية مايا .. بقلم د: محمد مصطفي الخياط

12 - 07 - 2021 6:10 581

 

الفصل الثامن
("الأكل هو الإنجاز الوحيد الذى يحقق فيه العرب نجاحات مضمونة ")


بيروت، خريف 2015


أداوم على لقاءاتي الصباحية بالأصدقاء قدر الإمكان؛ نجلس على الكورنيش نتجاذب أطراف الحديث والمشاغل اليومية، تأخذنا الأحداث من قريب ومن بعيد، قد يغيب الواحد منا عدة أسابيع لعمل أو مشاغل حياة أو سفر، إلا أنه لا يلبث أن يعود متى سمحت نافذة الوقت، الثابت الوحيد في هذه الحلقة كان شفيق؛ جاوز الخمسين من عمره ويدير أعمال تجارية حرة، يشبه مركز مجرة تدور في فلكها كواكب أخرى فإذا غاب انفرطت المجرة بأكملها وتناثرت في الفراغ على غير هدى.

 


أول من يصل من المجموعة إلى الكورنيش؛ يـُخرج من سيارته، موقد الغاز الصغير، وزجاجات المياه، وبرطمانين كبيرين؛ واحد للسكر والآخر للقهوة، يجلس على كرسى منخفض مواجهًا البحر واضعًا قبالته كرسيين آخرين، يغالب الوقت وينتظر القادمين، فإذا حان أوان الانصراف طوى كراسيه وأطفأ موقده وأعاد حاجياته إلى السيارة. لا يتردد في دعوة المارين، متى التفتوا نحوه ولو بنظرة عابرة؛ كأنه في بحث دائم عن شريك، يدعوهم لشرب فنجان قهوة أو تناول قطعة حلوى، فإن لم يجد من يدعوه تناول فنجانه واتكأ على سور الكورنيش يتأمل المراكب العابرة ومناورات طيور النورس بحثاً عن أسماك الشبوط الصغيرة والتى ما إن تقبض عليها بين مناقيرها المدببة الدقيقة حتى تطير بها بعيدًا عن سطح الماء، أو يتابع بعينيه المشاة. مع الوقت أيقنت أنه جزء من الكورنيش، صعب أن ينفصل عنه.

 


تضم شلة الكورنيش، تجمع يتفاوت أعضاؤه في كل شيء؛ المستوى الاجتماعي، الدرجة الأكاديمية والوظيفية، السن، التوجهات والمشارب السياسية، وغيرها. حب الحياة هو العامل المشترك والجامع لهذه الصحبة، لا يذكر الكثيرون كيف انضموا إلى مجرة شفيق، بعضهم جاء مع صديق لمرات متفاوتة ومتباعدة ثم ما لبث ان اعتاد الجلسة وصار من روادها، وآخرون ارتبطوا بصداقات ومعارف.

 


 تنمو الدائرة صيفًا وتنكمش شتاءً بتأثير العمل والطقس؛ العمل خارج لبنان لعموم السنة وقضاء الصيف مع الأهل، وقسوة فصل شتاء يغلب عليه الريح والمطر ونديف الثلج. شفيق هو الثابت في المجرة، على مدار كل الفصول، يليه الحاج سعيد، عدا ذلك يتبدل الحضور والغياب، فتتسع الحلقة وتضيق.

 


تتشابه ملابسات انضمام ميشيل للمجموعة معى، نقطن في ذات المربع بالقرب من الحاج سعيد، يتصل بعد انتهائه من صلاة الفجر بميشيل فيقابله على ناصية الشارع، أحيانا أذهب معهما وكثيرًا ما ألحق بهما، يعمل في وزارة الصناعة؛ تلقى شطرا من تعليمه في بيروت وأكمل الجزء الأكبر خارجها هربا مع أسرته من ويلات حرب أهلية استمرت نحو خمسة عشر عاما، متسامح، ذو وجه سينمائى جذاب، بشرة بيضاء صافية وشعر أسود يحرص على صباغته وإكسابه لمعانًا وبريقا، يرتدى نظارة حديثة بذراعين معدنيين فضيين وعدسات من دون إطار، في منتصف العقد الخامس وإن بدا أقل من عمره بعشر سنوات على الأقل،
-    أعطيك خمس وثلاثين، يقلوا ما يزيدوا


قلت له عندما تطرق الحديث للسن، فأجاب ضاحكا 
-    لا، خمس وأربعين


لا يتردد الحاج سعيد في مشاغبة الجميع وإن كان سيدانى أوفرهم حظا، نتقبل منه ملح حديثه مطمئنين إلى نقاء سريرته وحسن الظن به، يركب ميشيل معه السيارة فلا يكاد يضع قدمه فيها إلا ويبادره ضاحكًا
-    يا ترى صليت السُنة ؟


فيضحك ميشيل ويجيب متماشيا معه،
-    سماح يا حاج، راحت علي نومة
فلا يفوتها له ويعقب غامزا؛
-    نومة برضه


فنضحك جميعًا، الوحيد الذى يتحفظ معه الحاج عن غيره هو أبو فادى، منحه لقب هارون الرشيد في إشارة إلى زواجه من اثنتين، لبنانية وأخرى ذات أصول مشتركة، لاتينية وعربية، تقيم الأولى بمنطقة عرمون خارج بيروت والثانية في الصين، حين نوى الزواج من بولينا أخبر زوجته بكل شيء، تفهمت دوافعه، وغضت الطرف مع زوج يضع مطالبه الخاصة على رأس قائمة أولوياته، اعتاد العمل في النور، فعاش حياة هانئة مستقرة يحسده عليها الجميع.

 
ناول سيدانى علبة الكعك لميشيل فشكره مكتفيا بواحدة يتناولها مع قهوته على مهل، التقط الحاج سعيد العلبة وازدرد واحدة ثم علق متهكما على ميشيل أنه يخشى السمنة وزيادة الوزن ويحرم نفسه من لذيذ الطعام والشراب، ثم قال ساخرًا وهو يتحسس بطنه المستديرة،
-    اللي بيرفضه ميشيل بطني أولى بيه

 


يضحك سيدانى معلقًا أن ما نأكله في لحظات يتطلب أسابيع للتخلص منه وذكر ما عاناه من قبل لإنقاص وزنه بضعة كيلوجرامات تنفيذًا لتعليمات الطبيب الذى حذره من الإفراط في الطعام وضرورة إنقاص الوزن، فلما تحقق له ما أراده الطبيب عده إنجازًا كبيرًا في حياته، فما كان من الحاج سعيد إلا أن علق متهكما كعادته وممارسا لعبة القط والفأر التى يتقنها مع سيدانى،
-    الأكل هو الإنجاز الوحيد اللي عم يحقق فيه العرب نجاحات مضمونة
فغمزه ميشيل وهو يشير برأسه إلى أبو فادى المتابع لتفاصيل الحوار والتعليقات مكتفيًا بالابتسام والصمت وقال،
-    ألله خصيمك ما تنسي إنجازات هارون الرشيد العاطفية !!
فأسرع أبو فادى معترضا بطريقة مسرحية؛
-    مظلوم يا بيه
فأُغرق الجميع في الضحك حتى ارتجت بطن الحاج سعيد كعادتها كلما ضحك.

 


أوكل الحاج لأولاده الكثير من شئون تجارته مكتفيًا بمتابعة المبيعات والمشتريات مع المرور على المحل من يوم لآخر، فلا يأتي فصل الصيف حتى ينتقل للإقامة في بيته بالجبل فلا ينزل بيروت إلا على فترات، ربما كل أسبوعين وأحيانًا أبعد من ذلك، ومتى نزل انضم للجلسة، فإن لم يدركها تقابلنا في المساء عند أحد الأصدقاء، أو في بيته هو، يأتى بخزين حكايات ومناغشات يتناسب مع المدة التى انقطع فيها، ويكون لسيدانى النصيب الأوفر منها، وأحيانًا نذهب نحن لزيارته في الجبل، وعادة ما يكون يوم جمعة، نحضر معه الصلاة، ونتغدى معًا، وعادة ما يكون لحمًا مشويًا نتبادل عليه الأدوار حتى ينضج في جو لا يخلو من قفشات ومداعبات، ثم نعود أوان الغروب. 

 


الطقس في الجبل معتدل، كأنما ضُبط على درجة حرارة تتأرجح حول العشرين درجة مئوية صيفًا، يغريك بالإقامة فيه علاوة على ذلك تكسو الخضرة الجبل والطرقات فتشعر بنقاء وصفاء مصحوبًا بهدوء، يحرص الحاج على قضاء الصيف كله بالجبل يُخلله، بين الحين والآخر، ببضعة أيام في مدن لبنان الساحلية مع رحلات أخرى إلى دمشق وعَمَان بالسيارة، للترفيه والاستجمام إرضاءً لنهمه للسفر، علاوة على رحلة سنوية للخارج، فإذا ما حل فصل الشتاء فارق الجبل وجليده.

 


رغم فارق السن، مَثل لى الحاج بعدًا اجتماعيًا هامًا حين نزلت بيروت وحيدًا، فلا بيروت تعرفنى ولا أنا أعرفها، فقط بعض الزملاء ممن سمح محيط العمل بتنمية علاقات اجتماعية خفيفة معهم خلال زيارات عمل مكوكية قبل قدومي للاستقرار بها. 

 


ظلت بيروت لعدة أشهر من وصولي صيف عام 2006 مدينة غريبة على إلى أن تعرفت على الحاج سعيد في محله القريب من سكنى؛ يجلس خلف مكتبه وأمامه كرشه المدور يتابع الزبائن، ماذا يشترون، وكيف ينتقون بضائعهم، ينظر في سلوك عماله وأدائهم، وردود أفعالهم مع الزبائن، ولا يتدخل إلا عند الضرورة. "حضرتك من مَصِرْ ؟" جائنى صوته أجشًا خشنًا متسائلاً، تلفت حولى فإذا أنا وحدى في المحل، فعرفت أنه يقصدنى، فأجبته،
-    نعم
-    مصر أم الدنيا !!  
-    تِسلم،
-    أنت زبون لعنا، ساكن قَريب من هون ؟
-    عمارة سركيس
قال رافعًا حاجبية وملء وجهه الأبيض ابتسام وبِشر،
-    إيييه، انت جارنا !! 
-    شرف لينا
-    العفو، أهل مصر كثير ذوق
-    ...
رجع بظهره للخلف ورفع رأسه إلى السقف وراح يتذكر زياراته الأولى لمصر في رحلات سياحية بالباخرة، ولأن الشوام أهل تجارة ولا يفوتون فرصة للاستثمار، حتى وإن كانوا سياحًا. اعتاد في سفرياته اصطحاب المكسرات اللبنانية وبيعها، إما بمجرد رسو السفينة إلى التجار السكندريين المنتظرين على الشاطئ، أو في الفنادق التى يكثر نزولهم فيها -وعادة ما تكون لمثل هذه الفئة من السياح- فنادق متوسطة تتحول فيها أجزاء من مساحة المدخل إلى حلقات بيع ومساومة مع شيء من أصوات تعلو وتهبط بلهجات ولغات مختلفة. يشترى التجار ويقايضون السائحين القادمين من كل الدنيا إلى أم الدنيا بما معهم من بضائع؛ ملابس، ساعات، ملبوسات جلدية، لوحات، أو مكسرات كما هو الحال مع اللبنانيين. 

 


يحكى الحاج بطريقته التمثيلية عن أول مرة رأى فيها الأهرامات وأبو الهول فترتسم على وجهه علامات الانبهار والدهشة وعدم التصديق من ضخامتها وضآلته إلى جوارها، يروي وكأنه عاد بالزمن إلى وقت رآها أول مرة، وصار يصاحبه ذات الشعور كلما جاء ذكرها سواء معى أو مع آخرين.

 


لا ينسى أبدًا أنه تاجر حتى وهو معنا؛ فمن حين لآخر يصطحب بعض الحلويات ويوزعها على المتحلقين منبهًا أنها مستوردة، وصناعة سويسرية فاخرة، والكمية محدودة وأسعارها تنافسية، وأن ابنه استوردها منذ أيام قلائل، ولولا أنه يحب لهم الخير ما أحضر لهم هذه العينة ليتذوقوها، ثم يختم أداءه التمثيلي اللطيف مؤكداً توافرها بمحله فقط، يداعبه سيدانى أنه ما أراد منحهم الحلوى لوجه الله وإنما ليروج لمحله، وتتعدد التعليقات خاصة عندما يطلب منه البعض الشراء، عندها يأخذ الثمن مقدمًا ويعد بإحضارها صباح اليوم التالي. 

 


توطدت علاقتي به فوجدت فيه رجلا كبير القلب، شديد الكرم؛ نذهب ونعود من الكورنيش معا، وفى كثير من أيام السبت والآحاد، أجازتى الأسبوعية، يصر على تناول الفطور معًا،
-    يعنى ما وحشك جو الأسرة، بدل قعدتك لحالك


يرد على وهو يجذبنى من يدى إلى بيته عندما اعتذر عن قبول دعوته، لا يبعد مسكنه عن محله سوى بضع بنايات، نذهب معًا فإذا أم وليد، زوجته، قد عادت بدورها من الكورنيش وطلبت من الخادمة الآسيوية إعداد الفطور، فلا نجلس إلى المائدة حتى يأخذ الحاج في شرح مكونات وطرق إعداد بعض الأطباق مندهشًا من إقبالى على الأجبان وزهدى في غيرها. 
-    دى قاورمة، كيف ما تأكل منها


قالها مُفخماً حرف القاف فبدت الكلمة طريفة الوقع على الأذن، ثم أردف يصف طريقة إعدادها من أول شراء خروف سمين بقرنين يدلان على بأسه وقوته ومرورًا بجولات التفاوض مع البائع ونقله وذبحه وسلخه في محل أخيه الأصغر الذى يبعد نحو شارعين عن بيته، ثم تقطيعه إلى مكعبات صغيرة؛
-    أد راس العصفور
على حد وصفه ورفع بنان سبابته المكتنزة أمام عينى في إشارة إلى صغر حجم القطع، ثم وضع اللحم كله في قِدر كبير وتغطيته بلية الخروف مع رشة ملح صغيرة وتركها تنضج على نار هادئة لساعات طوال، ثم تفريغها في برطمانات زجاجية كبيرة وإغلاقها عندما يبرد اللحم الذى تكتسى كل قطعة منه بطبقة من الدهن تغطيه من كافة جوانبه وتحجب عنه الهواء فيحفظها لمدد تطول شهورًا فإذا ما رغب في الأكل منها تناول من البرطمان بضع ملاعق، بحسب شهيته، وسخنها في مقلاة مع بعض البهارات. 

 


كان الحاج يصف مُحركًا جسمه ويديه ورأسه وحاجبيه بما يتناسب مع كل مرحلة من مراحل الشرح، وأحيانا يستشهد بأم وليد التى لا ترفع وجهها عن الطعام مكتفية بهز رأسها مؤمنة على كلامه أو مصححة وأغلب ظنى أنها لا تصغي لكل ما يقول، فقد سمعت منه هذه الحكايات عشرات المرات على مدى عمرهما الذى قضيا أغلبه زوجين، وجانبًا من شرخ الشباب والطفولة معًا كأبناء عمومة، يقيمون في بيت عائلة كبير.

 


يبحث الحاج سعيد دائمًا عن كل ما يُدخل على قلبه السرور، ويتجنب مصادر التوتر والقلق قدر الإمكان، يبدو ذلك تحديًا كبيرًا في بلد يتكون من قطع فسيفساء صغيرة تداخلت وتآلفت في أشكال عديدة؛ فسيفساء الدين، والسياسة، والأعراق، والفن، والأدب. 

 


شرب البلد من خمر السياسة حتى الثمالة، سَكِرَ مواطنوه تحت رايات شتى وما ارتووا. تعلوا أصواتهم عندما يناقشون أمورها حتى يُخيل إليك أننا مقبلون على بدايات حرب أهلية كتلك التى ضربت البلد من منتصف السبعينيات وقت كان القتل على الهوية عملاً بطوليًا مشروعًا، ثم سرعان ما تذوى نار النقاش بفعل تكرار الحديث والآراء ومتغيرات الساسة الذين يتقاتل انصارهم ليلا في سبيل آرائهم فإذا بهم في الصباح يغيرون مواقعهم غير مبالين بأتباعهم الذين تصيبهم الحيرة ولا يدرون كيف يدافعون عنهم، لكنهم وبالفطرة يجدون أنفسهم في ذات الخندق الذى انتقل إليه زعمائهم؛ ربما من باب الإصرار على امتلاك هوية يتحدث ويتحرك تحتها ويعمل من خلالها، وربما نكاية في خصومهم فراحوا يتمسكون بمواقفهم تجاه قادتهم؛ وقادتهم جد مشغولون، لا فرق في ذلك بين متعلم وغير متعلم، الكل أمام السياسة أطفال، حتى الحاج سعيد الذى تحمر أوداجه متى خاض فيها.
إلى لقاء في فصل جديد
 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved